سورة الأعراف - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{المص} إما مسرودٌ على نمط التعديدِ بأحد الوجهين المذكورين في فاتحة سورةِ البقرة فلا محلَّ له من الإعراب، وإما اسمٌ للسورة فمحلُّه الرفعُ على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ، والتقديرُ هذا ألمص أي مسمّىً به، وتذكيرُ اسمِ الإشارة مع تأنيث المسمَّى لما أن الإشارةَ إليه من حيث إنه مسمّىً بالاسم المذكور لا من حيث أنه مسمّىً بالسورة وإنما صحت الإشارةُ إليه مع عدم سبقِ ذكرِه لما أنه باعتبار كونِه بصدد الذكرِ صار في حكم الحاضِر المشاهَد وقوله عز وجل: {كِتَابٌ} على الوجه الأولِ خبرُ مبتدإ محذوفٍ وهو ما ينبىء عنه تعديدُ الحروفِ كأنه قيل: المؤلَّفُ من جنس هذه الحروفِ مراداً به السورةُ كتابٌ الخ، أو اسمُ إشارةٍ أشير به إليه تنزيلاً لحضور المؤلَّفِ منه منزلةَ حضورِ نفسِ المؤلّف، أي هذا كتابٌ الخ، وعلى الوجه الثاني خبرٌ بعد خبرٍ جيء به إثرَ بيانِ كونه مترجماً له باسمٍ بديع مُنبىءٍ عن غرابته في نفسه إبانةً لجلالة محلِّه ببيان كونِه فرداً من أفراد الكتبِ الإلهية حائزاً للكمالات المختصَّة بها وقد جُوّز كونُه خبراً، وألمص مبتدأٌ أي المسمّى بألمص كتابٌ وقد عرفتَ ما فيه من أن ما يجعل عنواناً للموضوع حقُّه أن يكون قبل ذلك معلومَ الانتسابِ إليه عند المخاطَب، وإذْ لا عهدَ بالتسمية قبلُ فحقُّها الإخبارُ بها {أَنزَلَ إِلَيْكَ} أي من جهته تعالى بُني الفعلُ للمفعول جرياً على سَنن الكبرياءِ وإيذاناً بالاستغناء عن التصريح بالفاعل لغاية ظهورِ تعيُّنِه وهو السرُّ في ترك ذكرِ مبدأ الإنزال كما في قوله جل ذكره: {بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} ونظائرِه والجملةُ صفةٌ لكتابٌ مشرِّفةٌ له ولمن أُنزل إليه وجعلُه خبراً له على معنى: كتابٌ عظيمُ الشأنِ أُنزل إليك خلاف الأصل {فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ} أي شك كما في قوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} خلا أنه عبّر عنه بما يلازمه من الحَرَج فإن الشاكَّ يعتريه ضيقُ الصدرِ كما أن المتيقِّنَ يعتريه انشراحُه وانفساخُه مبالغةً في تنزيه ساحتِه عليه الصلاة والسلام، وما قد يقع من نسبته إليه في ضمن النهي فعلى طريقةِ التهيجِ والإلهاب والمبالغة في التنفير والتحذيرِ بإيهام أن ذلك من القبح والشرِّية بحيث ينهى عنه من لا يمكنُ صدورُه عنه أصلاً فكيف بمن يُمكن ذلك منه، والتنوينُ للتحقير والجرُّ في قوله تعالى: {مِنْهُ} متعلقٌ بحرَجٌ يقال: حرِج منه أي ضاق به صدرُه أو بمحذوف وقع صفةً به أي حرجٌ كائنٌ منه أي لا يكن فيك ما في حقِّيته أو في كونه كتاباً منزلاً إليك من عنده تعالى، فالفاءُ على الأول لترتيب النهي أو الانتهاء على مضمون الجملةِ فإنه مما يوجب انتفاءَ الشكِّ فيما ذُكر بالكلية وحصولَ اليقينِ به قطعاً، وأما على الثاني فهي لترتيب ما ذُكر على الإخبار بذلك لا على نفسه فتدبر.
وتوجيه النهي إلى الحرَج مع أن المرادَ نهيُه عليه الصلاة والسلام عنه إما لما مر من المبالغة في تنزيهه عليه الصلاة والسلام عن الشك فيما ذُكر فإن النهيَ عن الشيء مما يوهم إمكانَ صدورَ المنهيِّ عنه عن المنْهيّ، وإما للمبالغة في النهي فإن وقوعَ الشكِّ في صدره عليه الصلاة والسلام سببٌ لاتصافه عليه الصلاة والسلام به، والنهيُ عن السبب نهيٌ عن المسبَّب بالطريق البرهاني ونفيٌ له من أصله بالمرة كما في قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ} الآية، وليس هذا من قبيل لا أُرَيَنّك هاهنا فإن النهيَ هناك واردٌ على المسبب مرادٌ به النهيُ عن السبب فيكونُ المآلُ نهيَه عليه الصلاة والسلام عن تعاطي ما يُورِثُ الحرَجَ فتأملْ. وقيل: الحرجُ على حقيقته أي لا يكنْ فيك ضيقُ صدرٍ من تبليغه مخافةَ أن يكذّبوك وأن تُقصِّر في القيام بحقه فإنه عليه الصلاة والسلام كان يخاف تكذيبَ قومِه له وإعراضَهم عنه فكان يضيق صدرُه من الأداء ولا ينبسِطُ له فآمنه الله تعالى ونهاه عن المبالاة بهم، فالفاءُ حينئذ للترتيب على مضمون الجملةِ أو على الإخبار به فإن كلاًّ منهما موجبٌ للإقدام على التبليغ وزوالِ الخوفِ قطعاً وإن كان إيجابُه الثاني بواسطة الأول، وقولُه تعالى: {لِتُنذِرَ بِهِ} أي بالكتاب المنزل متعلقٌ بأُنزل وما بينهما اعتراضٌ توسّط بينهما تقريراً لما قبله وتمهيداً لما بعده وحسماً لتوهم أو موردَ الشكِّ هو الإنزالُ للإنذار وقيل: متعلقٌ بالنهي فإن انتفاءَ الشكِّ في كونه منزلاً من عنده تعالى موجبٌ للإنذار به قطعاً وكذا انتفاءُ الخوفِ منهم أو العلمُ بأنه موفقٌ للقيام بحقه موجبٌ للتجاسر على ذلك. وأنت خبيرٌ بأنه لا يتأتى على التفسير الأولِ لأن تعليلَ النهي عن الشك بما ذكر من الإنذار والتذكيرِ مع إيهامه لإمكان صدورِه عنه عليه الصلاة والسلام مُشعرٌ بأن المنهيَّ عنه ليس محذوراً لذاته بل لإفضائه إلى فوات الإنذارِ والتذكير لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظمُ غائلتِه ولا ريب في فساده، وأما على التفسير الثاني فإنما يتأتى التعليلُ بالإنذار لا بتذكير المؤمنين إذ ليس فيه شائبةُ خوفٍ حتى يُجعل غايةً لانتفائه، وقوله تعالى: {وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} في حيز النصبِ بإضمار فعلِه معطوفاً على تنذرَ أي وتذكّرَ المؤمنين تذكيراً، أو الجرِّ عطفاً على محل أن تنذرَ أي للإنذار والتذكير، وقيل: مرفوعٌ عطفاً على كتابٌ أو خبرٌ لمبتدإ محذوفٍ، وتخصيصُ التذكيرِ بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذارِ بالكفرة أي لتنذرَ به المشركين وتذكرَ المؤمنين، وتقديمُ الإنذار لأنه أهمُّ بحسب المقام.


{اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم} كلامٌ مستأنفٌ خوطب به كافةُ المكلفين بطريق التلوينِ وأُمروا باتباع ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل تبليغِه بطريق الإنذار والتذكيرِ، وجعلُه منزلاً إليهم بواسطة إنزالِه إليه عليه الصلاة والسلام إثرَ ذلك ما يصححه من الإنذار والتذكير لتأكيد وجوبِ اتباعه، وقولُه تعالى: {مّن رَّبّكُمْ} متعلقٌ بأُنزل على أن {من} لابتداء الغايةِ مجازاً أو بمحذوف وقع حالاً من الموصول أو من ضميره في الصلة، وفي التعرُّض لوصف الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين مزيدُ لطفٍ بهم وترغيبٌ لهم في الامتثال بما أُمروا به وتأكيدٌ لوجوبه، وجعلُ ما أنزل هاهنا عاماً للسنة القولية والفعلية بعيدٌ. نعم يعمُّهما حكمُه بطريق الدِلالةِ لا بطريق العبادةِ ولما كان اتباعُ ما أنزله الله تعالى اتباعاً له تعالى عُقّب الأمرُ بذلك بالنهي عن اتباع غيرِه تعالى فقيل: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ} أي من دون ربكم الذي أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق، ومحلُّه النصبُ على أنه حالٌ من فاعل فعلِ النهي أي لا تتبعوا متجاوزين الله تعالى {أَوْلِيَاء} من الجن والإنسِ بأن تقبلوا منهم ما يُلْقونه إليكم بطريق الوسوسةِ والإغواءِ من الأباطيل ليضلّوكم عن الحق ويَحمِلوكم على البدع والأهواءِ الزائغةِ أو مِنْ أولياءَ قُدّم عليه لكونه نكرةً إذ لو أُخر عنه لكان صفةً له أي أولياءَ كائنةً غيرَه تعالى، وقيل: الضميرُ للموصول على حذف المضافِ في أولياء ولا تتبعوا من دون ما أَنزل أباطيلَ أولياءَ كأنه قيل: ولا تتبعوا من دون دينِ ربِّكم دينَ أولياءَ وقرئ {ولا تبتغوا} كما في قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا} وقولُه تعالى: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} بحذف إحدى التاءين وتخفيفِ الذال، وقرئ بتشديدها على إدغام التاء المهموسةِ في الذال المجهورة، وقرئ {يتذكرون} على صيغة الغَيبة، وقليلاً نُصب إما بما بعده على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ مقدَّمٍ للقصر، أو لزمانٍ كذلك محذوفٍ و{ما} مزيدةٌ لتأكيد القِلة، أي تذكرا قليلاً أو زماناً قليلاً تذكرون لا كثيراً حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون دينَ الله تعالى وتتبعون غيرَه، ويجوز أن يُراد بالقلة العدمُ كما قيل في قوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مسوقٌ لتقبيح حالِ المخاطَبين، والالتفاتُ على القراءة الأخيرةِ للإيذان باقتضاء سوءِ حالِهم في عدم الامتثالِ بالأمر والنهي على صرفِ الخطابِ عنهم وحكايةِ جناياتِهم لغيرهم بطريق المباثّة، وإما نُصبَ على أنه حالٌ من فاعل لا تتبعوا وما مصدريةٌ مرتفعةٌ به أي لا تتبعوا من دونه أولياءَ قليلاً تذكّرُكم لكن لا على توجيه النهي إلى المقيد فقط كما في قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} بل إلى المقيد والقيدِ جميعاً، وتخصيصُه بالذكر لمزيد تقبيحِ حالِهم بجمعهم بين المنكرين.


{وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها} شروعٌ في إنذارهم بما جرى على الأمم الماضيةِ بسبب إعراضِهم عن اتباع دينِ الله تعالى وإصرارِهم على اتباع دينِ أوليائِهم، وكم خبريةٌ للتكثير في موضع رفعٍ على الابتداء كما في قولك: زيد ضربته، والخبرُ هو الجملةُ بعدها ومن قرية تمييزٌ والضميرُ في أهلكناها راجعٌ إلى معنى كم أي كثيرٌ من القرى أهلكناها أو في موضع نصب بأهلكناها كما في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ} والمرادُ بإهلاكها إرادةُ إهلاكِها كما في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا} أي أردنا إهلاكَها {فَجَاءهَا} أي فجاء أهلَها {بَأْسُنَا} أي عذابُنا {بَيَاتًا} مصدر بمعنى الفاعل واقعٌ موقعَ الحال أي بائتين كقوم لوطٍ {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} عطفٌ عليه أي وقائلين من القيلولة نصفَ النهار كقوم شعيب وإنما حُذفت الواو من الحال المعطوفةِ على أختها استثقالاً لاجتماع العاطفَين فإن واو الحال حرفُ عطفٍ قد استعيرت للوصل لا اكتفاءً بالضمير كما في جاءني زيد هو فارس فإنه غيرُ فصيح، وتخصيصُ الحالتين بالعذاب لما أن نزولَ المكروهِ عند الغفلة والدعَةِ أفظعُ وحكايتَه للسامعين أزجرُ وأردَعُ عن الاغترار بأسباب الأمن والراحةِ، ووصفُ الكلِّ بوصفي البياتِ والقيلولة مع أن بعضَ المُهلَكين بمعزل منهما لا سيما القيلولةِ للإيذان بكمال غفلتِهم وأمنِهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8